فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين} أي: بالسيف والحجة، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في سورة براءة {واغلظ عليْهِمْ} أي: شدّد عليهم في الدعوة، واستعمل الخشونة في أمرهم بالشرائع.
قال الحسن: أي: جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود {ومأْواهُمْ جهنّمُ} أي: مصيرهم إليها، يعني: الكفار والمنافقين {وبِئْس المصير} أي: المرجع الذي يرجعون إليه.
{ضرب الله مثلا للذِين كفرُواْ} قد تقدّم غير مرّة أن المثل قد يراد به إيراد حالة غريبة يعرف بها حالة أخرى مماثلة لها في الغرابة، أي: جعل الله مثلا لحال هؤلاء الكفرة، وأنه لا يغني أحد عن أحد {امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ} هذا هو المفعول الأوّل، و{مثلا} المفعول الثاني حسبما قدّمنا تحقيقه، وإنما أخر ليتصل به ما هو تفسير له، وإيضاح لمعناه {كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالحين} وهما نوح ولوط، أي: كانتا في عصمة نكاحهما {فخانتاهُما} أي: فوقعت منهما الخيانة لهما.
قال عكرمة، والضحاك: بالكفر، وقيل: كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه، وقد وقع الإجماع على أنه ما زنت امرأة نبيّ قطّ.
وقيل: كانت خيانتهما النفاق، وقيل: خانتاهما بالنميمة {فلمْ يُغْنِينا عنْهُما مِن الله شيْئا} أي: فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئا من النفع، ولا دفعا عنهما من عذاب الله مع كرامتهما على الله شيئا من الدفع {وقِيل ادخلا النار مع الدخلين} أي: وقيل لهما في الآخرة، أو عند موتهما: ادخلا النار مع الداخلين لها من أهل الكفر والمعاصي.
وقال يحيى بن سلام: ضرب الله مثلا للذين كفروا يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين تظاهرتا عليه.
وما أحسن من قال: فإن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرشد أتمّ إرشاد، ويلوّح أبلغ تلويح إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا، وقد عصمهما الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة.
{وضرب الله مثلا للذِين ءامنُواْ امرأة فِرْعوْن} الكلام في هذا كالكلام في المثل الذي قبله أي: جعل الله حال امرأة فرعون مثلا لحال المؤمنين ترغيبا لهم في الثبات على الطاعة والتمسك بالدين، والصبر في الشدّة، وأن صولة الكفر لا تضرّهم، كما لم تضر امرأة فرعون، وقد كانت تحت أكفر الكافرين، وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم {إِذْ قالتْ ربّ ابن لِى عِندك بيْتا في الجنة} الظرف متعلق بضرب، أو بمثلا، أي: ابن لي بيتا قريبا من رحمتك، أو في أعلى درجات المقربين منك، أو في مكان لا يتصرّف فيه إلاّ بإذنك، وهو الجنة {ونجّنِى مِن فِرْعوْن وعملِهِ} أي: من ذاته وما يصدر عنه من أعمال الشرّ {ونجّنِى مِن القوم الظالمين} قال الكلبي: هم أهل مصر.
وقال مقاتل: هم القبط.
قال الحسن، وابن كيسان: نجاها الله أكرم نجاة، ورفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب.
{ومرْيم ابنت عِمْران التي أحْصنتْ فرْجها} معطوف على امرأة فرعون، أي: وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران، أي: حالها وصفتها، وقيل: إن الناصب لمريم فعل مقدّر أي: واذكر مريم، والمقصود من ذكرها: أن الله سبحانه جمع لها بين كرامة الدنيا والآخرة، واصطفاها على نساء العالمين مع كونها بين قوم كافرين {التى أحْصنتْ فرْجها} أي: عن الفواحش، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النساء.
قال المفسرون: المراد بالفرج هنا الجيب لقوله: {فنفخْنا فِيهِ مِن رُّوحِنا} وذلك أن جبريل نفخ في جيب درعها فحبلت بعيسى {وصدّقتْ بكلمات ربّها} يعني: شرائعه التي شرعها لعباده، وقيل: المراد بالكلمات هنا هو قول جبريل لها: {إِنّما أناْ رسُولُ ربّكِ} الآية [مريم: 19].
وقال مقاتل: يعني بالكلمات: عيسى.
قرأ الجمهور: {وصدّقت} بالتشديد، وقرأ حمزة الأموي، ويعقوب، وقتادة، وأبو مجلز، وعاصم في رواية عنه بالتخفيف.
وقرأ الجمهور: {بكلمات} بالجمع، وقرأ الحسن، ومجاهد، والجحدري: (بكلمة) بالإفراد.
وقرأ الجمهور: {وكتابه} بالإفراد، وقرأ أهل البصرة، وحفص: {كتبه} بالجمع، والمراد على قراءة الجمهور: الجنس، فيكون في معنى الجمع، وهي الكتب المنزلة على الأنبياء {وكانتْ مِن القانتين} قال قتادة: من القوم المطيعين لربهم.
وقال عطاء: من المصلين، كانت تصلي بين المغرب والعشاء، ويجوز أن يراد بالقانتين: رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم، وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة، وقال: {من القانتين}، ولم يقل (من القانتات)؛ لتغليب الذكور على الإناث.
وقد أخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله: {فخانتاهُما} قال: ما زنتا: أما خيانة امرأة نوح، فكانت تقول للناس: إنه مجنون؛ وأما خيانة امرأة لوط: فكانت تدل على الضيف، فتلك خيانتهما.
وأخرج ابن المنذر عنه: قال: ما بغت امرأة نبيّ قط، وقد رواه ابن عساكر مرفوعا، وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة: أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد، وأضجعها على ظهرها، وجعل على صدرها رحى، واستقبل بها عين الشمس، فرفعت رأسها إلى السماء، فقالت {ربّ ابن لِى عِندك بيْتا في الجنة} إلى قوله: {مِن الظالمين} ففرج الله لها عن بيتها في الجنة فرأته.
وأخرج أحمد، والطبراني، والحاكم، وصححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرها في القرآن قالت: {ربّ ابن لِى عِندك بيْتا}» الآية.
وفي الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلاّ آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» وأخرج وكيع في الغرر عن ابن عباس في قوله: {ونجّنِى مِن فِرْعوْن وعملِهِ} قال: من جماعته. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة التحريم:
بِسْمِ الله الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يا أيُّها النّبِيُّ لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك تبْتغِي مرْضات أزْواجِك والله غفُورٌ رّحِيمٌ}
قال المهايميّ: ناداه ليقبل إليه بالكلية، ويدبر عن كل ما سواه من الأزواج وغيرهن. وعبّر عنه بالمبهم إشعارا منه بأنه من غاية عظمته، بحيث لا يعلم كنهه. وأتى بلفظ: {النّبِيُّ} إشعارا بأنه الذي نبئ بأسرار التحليل والتحريم الإلهيّ. والمراد بتحريمه ما أحلّ له امتناعه منه، وحظره إيّاه على نفسه. وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح، وإنما قيل له: {لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك} رفقا به، وشفقة عليه، وتنويها لقدره ولمنصبه صلى الله عليه وسلم، أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه، جريا على ما ألف من لطف الله تعالى نبيّه، ورفعه عن أن يحرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه، ومن أجله خلقوا، ليظهر الله كمال نبوته، بظهور نقصانهم عنه، كما أفاده الناصر.
تنبيهان:
الأول: للأثريين في هذا الذي حرمه صلوات الله عليه على نفسه روايات.
فروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، ويمكث عندها، فتواطأتُ أنا وحفصة أن أيّتنا دخل عليها فلتقل له: إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له فقال: «بل شربت عسلا عند زينب ابنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت! لا تخبري بذلك أحدا»، فنزلت الآية.
وروى الشيخان أيضا عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه، فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر، فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة عسل، فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: والله لنحتالنّ له! فذكرت ذلك لسودة، وقلت لها: إذا دخل عليك، ودنا منك، فقولي له: يا رسول الله! أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا! فقولي له: وما هذه الريح؟ و«كان صلى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريه»! فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: أكلت نحلُه العُرفط، حتى صار فيه- أي: في العسل- ذلك الريح الكريه، وإذا دخل عليّ فسأقول له ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة، قالت له مثل ما علمتها عائشة، وأجابها بما تقدم. فلما دخل على صفية، قالت له مثل ذلك، فلما دخل على عائشة قالت له مثل ذلك؛ فلما كان اليوم الآخر ودخل على حفصة قالت له: يا رسول الله! ألا أسقيك منه؟ قال: «لا حاجة لي به». قالت: إن سودة تقول: سبحان الله! لقد حرمناه منه، فقلت لها: اسكتي.
والمغافير صمغٌ حلو له رائحة كريهة ينضحه شجر، يقال له: العرفط بضم العين المهملة والفاء.
وفي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة، وفي سابقتها أنها زينب. والاشتباه في الاسم لا يضر، بعد ثبوت أصل القصة.
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: كانت حفصة وعائشة متحابتين، وكانتا زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت حفصة إلى أبيها، فتحدثت عنده، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتها في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريته، ودخلت حفصة، فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سؤتني! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لأرضينك، فإني مسرّ إليك سرا فاحفظيه»! قالت: ما هو؟ قال: «إني أشهدك أن سريّتي هذه عليّ حرام، رضا لك»- وكانت حفصة وعائشة تظاهران على نساء النبي صلى الله عليه وسلم- فانطلقت عائشة فأسرت إليها أن أبشري، إن النبي صلى وسلم قد حرم عليه فتاته. فلما أخبرت بسرِّ النبي صلى الله عليه وسلم، أظهر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله على رسوله لما تظاهرتا عليه:
{يا أيُّها النّبِيُّ لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك} الآيات.
وروي أيضا عن الضحاك قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتاة يغشاها، فبصرت به حفصة، وكان اليوم يوم عائشة، وكانتا متظاهرتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتمي عليّ، ولا تذكري لعائشة ما رأيت»، فذكرت حفصة لعائشة، فغضبت عائشة، فلم تزل بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقربها أبدا، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يكفِّر يمينه ويأتي جاريته.
وروى النسائي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرّمها، فأنزل الله هذه الآية.
ولم يرجح ابن جرير أحد السببين المرويين في نزولها على الآخر، بل وقف على إجمال الآية، على عادته في أمثالها، ولذا قال: الصواب أن يقال: كان الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون شرابا من الأشربة، وجائز أن يكون غير ذلك، غير أنه، أي: ذلك كان، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالا، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه كما كان له قد أحله، وبيّن له تحلة يمينه. انتهى.
والذي يظهر لي هو ترجيح روايات تحريم الجارية في سبب نزولها، وذلك لوجوه:
منها: أن مثله يبتغي به مرضاة الضرات، ويهتم به لهن.
ومنها: أن روايات شرب العسل لا تدل على أنه حرمه ابتغاء مرضاتهن، بل فيه أنه حلف لا يشربه أنفة من ريحه، ثم رغب إلى عائشة أن لا تحدث صاحبته به شفقة عليها، إلا أن يكنّ عاتبنه في ذلك، ولم يحتمل لطف مزاجه الكريم ذلك، فحرمه.
ولكن ليس في الرواية ما يشعر به. وما زاد على ذلك فمن اجتهاد الرواة.
ومنها: أن الاهتمام بإنزال سورة على حدة، لتقريع أزواجه صلى الله عليه وسلم وتأديبهن في المظاهرة عليه، وإيعادهن على الإصرار على ذلك، بالاستدلال بهن، وإعلامهن برفعة مقامه، وأن ظهراءهُ مولاه وجبريل والملائكة والمؤمنون، كل ذلك يدل على أن أمرا عظيما دفعهن إلى تحريمه ما حرم وما هو إلا الغيرة من مثل ما روي في شأن الجارية, فإن الأزواج يحرصن أشد الحرص على ما يقطع وصلة الضرة الضعيفة ويبترها من عضو الزوجية. هذا ما ظهر لي الآن.
وأما تخريج رواية العسل في هذه الآية، وقول بعض السلف نزلت فيه، فالمراد منه أن الآية تشمل قصته بعمومها، على ما عرف من عادة السلف في قولهم: نزلت في كذا، كما نبهنا عليه مرارا. وكأنه عليه السلام كان حرم ذلك الشراب، ثم أخبر الرواةُ بأن مثله فرضت فيه التحلة، فلا مانع من العود إلى شربه، والله أعلم.
الثاني: في (الإكليل): استدل بها على أن من حرم على نفسه أمة أو طعاما أو زوجة، لم تحرم عليه، وتلزمه كفارة يمين.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: في الحرام يكفر؛ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
وذهب ابن جرير إلى أنه كان مع التحريم يمين، ورد كون التحريم بمجرّده يمينا، وفيه نظر، لأن اليمين في عرفهم أعم من القسم بالله، كما ذهب إليه ابن عباس والحسن وقتادة وابن جبير وغيرهم.
قال قتادة: إن النبي صلى الله علبيه وسلم حرمها، يعني جاريته، فكانت يمينا- رواه ابن جرير- وسيأتي ما يؤيده. وقوله تعالى: {قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ والله موْلاكُمْ وهُو الْعلِيمُ الْحكِيمُ} [2]
{قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ} أي: شرع تحليلها- وهو حل ما عقدته- بالكفارة. والتحلة مصدر بمعنى التحليل.
{والله موْلاكُمْ} أي: متولي أموركم {وهُو الْعلِيمُ} أي: بمصالحكم {الْحكِيمُ} أي: في تدبيره إياكم بما شرعه وحكم به.
تنبيهات:
الأول: قال ابن قدامة في (الروضة): دلت الآية على أن حكم خطابه صلى الله عليه وسلم لا يختص به، لأنه لما عاتبه في تحريم ما أحل له قال عقيبه: {قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ} وابتدأ الخطاب بمناداته وحده، ثم تممه بلفظ الجمع بقوله: {يا أيُّها النّبِيُّ إِذا طلّقْتُمُ النِّساء} والمسألة طويلة الذيل في الأصول.
الثاني: قال تقيّ الدين ابن تيمية: التحلة مصدر حللت الشيء تحليلا وتحلة، كما يقال: كرمته تكريما وتكرمه، وهذا المصدر يسمّى به المحلل نفسه، الذي هو الكفارة فإن أريد المصدر، فالمعنى: فرض الله لكم تحليل اليمين، وهو حلها الذي هو خلاف العقد.
ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم كأبي بكر عبد العزيز، بهذه الآية على التكفير قبل الحنث، لأن التحلة لا تكون بعد الحنث، فإنه بالحنث ينحل اليمين، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لينحل اليمين، وإنا هي بعد الحنث كفارة، لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله. فإذا تبين أن ما اقتضت اليمين وجوب الوفاء بها، رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من الآصار.
الثالث: شمل قوله تعالى: {أيْمانِكُمْ} تحريم الحلال المذكور قبل، وهو الزوجة، لدخوله فيه دخولا أوليا، بل كل يمين.
قال تقي الدين ابن تيمية في(فتاويه): قوله تعالى: {قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ} نصّ عام في كل يمين يحلف بها المسلمون، أن الله قد فرض لها تحلة. وذكره سبحانه بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي صلى الله عليه وسلم، مع علمه سبحانه بأن الأمة يحلفون بأيمان شتى: فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة، لكان مخالفا للآية. كيف وهذا عام لم تخص فيه صورة واحدة، لا بنص ولا بإجماع، بل هو عام عموما معنويا، مع عمومه اللفظي؟ فإن اليمين معقود يوجب منع المكلف من الفعل، فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة، وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق، أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب: فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس، أو ليقطعن رحمه، أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها، فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه، أن يبرّ ويصلح بين الناس، أكثر مما يجعل الله عرضة، ثم إن وفي بيمينه، كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه. وإن طلق امرأته ففي الطلاق أيضا من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه. وإن طلق امرأته، ففي الطلاق أيضا من ضرر الدنيا والدين ما لا خفاء به. وأيضا فإنه تعالى قال: {لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك تبْتغِي مرْضات أزْواجِك والله غفُورٌ رّحِيمٌ} وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله، إلا والله غفور لفاعله، رحيم به، وأنه لا علة تقتضي ثبوت التحريم؛ لأن قوله لأي شيء استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير، لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك، والله غفور رحيم، فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له، لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال، ولا يبقى موجب المغفرة والرحمة على هذا الفاعل.
ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم حديث: «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك»، فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله. وهذه الدلالة تنبيه على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهما في مسألة نذر اللجاج والغضب؛ فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية، وجعلوا قوله: {تحِلّة أيْمانِكُمْ} كفارة أيمانكم عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر. ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما، سواء.
فإذا قيل: المراد بالآية اليمين بالله فقط، فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين، ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة في قوله: {عقّدتُّمُ الأيْمان} [المائدة: 89]، و{تحِلّة أيْمانِكُمْ} منصرفا إلى اليمين المعهودة عليهم، وهي اليمين بالله، وحينئذ فلا يعلم من اللفظ إلا المعروف عندهم، والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم. ولو كان اللفظ عاما، فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة، كاليمين بالمخلوقات، فلا يدخل الحلف بالطلاق ونحوه، لأنه ليس من اليمين المشروعة لقوله: «من كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت» وهذا سؤال من يقول: كل يمين غير مشروعة، فلا كفارة لها ولا حنث.
فيقال: لفظ اليمين شمل هذا كله، بدليل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله. كقوله صلى الله عليه وسلم: «النذر حلف». وقول الصحابة لمن حلف بالهدي بالعتق: كفِّر يمينك. وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولإدخال العلماء ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك». ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال: {لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك} ثم قال: {قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ} فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين، كما استدل به ابن عباس. وسبب نزول الآية إما تحريمه العسل، وإما تحريمه مارية القبطية. وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية، وليس يمينا بالله، لهذا أفتى جمهور الصحابة، كعمرو عثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم، أن تحريم الحلال يمين مكفرة، إما كفارة كبرى كالظهار، وإما كفارة صغرى كاليمين بالله. ومازال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا.
وأيضا فإن قوله: {لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك} إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام، وإما لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها، وإما لم تحرمه مطلقا، فإن أريد الأول والثالث فقد ثبت تحريمه بغير الحلف بالله تعالى، ثم فيعم، وإن أريد به تحريمه بالحلف بالله، فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال. ومعلوم أن اليمين بالله لم يوجب الحرمة الشرعية، لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل، فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في قوة قوله: {لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك} وحينئذ فقوله: {قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ} لابد أن يعم كل يمين حرمت الحلال، لأن هذا حكم ذلك الفعل، فلابد أن يطابق صوره؛ لأن تحريم الحلال هو سبب قوله: {قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ} وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما، لئلا يكون جوابا عن البعض دون البعض، مع قيام السبب المقتضي للتعميم.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: الذين أوجبوا كفارة اليمين بالتحريم أسعد بالنص من الذين أسقطوها، فإن الله سبحانه ذكر تحلة الأيمان عقيب قوله: {لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك} وهذا صريح في أن تحريم الحلال قد فرض فيه تحلة الأيمان، إما مختصا به، وإما شاملا له ولغيره، فلا يجوز أن يخلي سبب الكفارة المذكورة في السياق عن حكم الكفارة، ويتعلق بغيره، وهذا ظاهر الامتناع.
وأيضا فإن المنع من فعله بالتحريم، كالمنع منه باليمين، بل أقوى؛ فإن اليمين، إن تضمن هتك حرمة اسمه سبحانه، فالتحريم تضمن هتك حرمة شرعه وأمره، فإنه إذا شرع حلالا فحرمه المكلف، كان تحريمه هتكا لحرمة ما شرعه.
ونحن نقول: لم يتضمن الحنث في اليمين هتك حرمة الاسم، ولا التحريم هتك حرمة الشرع، كما يقوله من يقوله من الفقهاء، وهو تعليل فاسد جدا، فإن الحنث إما جائز، وإما واجب، أو مستحب. وما جوز الله لأحد البتة أن يهتك حرمة اسمه، وقد شرع لعباده الحنث مع الكفارة. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا حلف على يمين، ورأى غيرها خيرا منها كفر عن يمينه، وأتى المحلوف عليه. ومعلوم أن هتك حرمة اسمه تبارك وتعالى لم يبح في شريعة قط، وإنما الكفارة كما سماها الله تعالى، تحلة، وهي تفعلة من الحل، فهي تحل ما عقد به اليمين ليس إلا. وهذا العقد، كما يكون باليمين، يكون بالتحريم. وظهر سر قوله تعالى: {قدْ فرض الله لكُمْ تحِلّة أيْمانِكُمْ}، عقيب قوله: {لِم تُحرِّمُ ما أحلّ الله لك}
وقال رحمه الله فيه، قبلُ: أما من قال: إنه يمين مكفرة بكل حال، فمأخذ قوله أن تحريم الحلال من الطعام والشراب واللباس يمين يكفر بالنص والمعنى وآثار الصحابة، فإن الله سبحانه قال: {يا أيُّها النّبِيُّ لِم تُحرِّمُ} الآية، ولابد أن يكون تحريم الحلال داخلا تحت هذا الفرض، لأنه سببه، وتخصيص محل السبب من جملة العامّ، ممتنع قطعا؛ إذ هو المقصود بالبيان أولا، فلو خص لخلا سبب الحكم عن البيان، وهو ممتنع. وهذا استدلال في غاية القوة، فسألت عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فقال: نعم! التحريم يمين كبرى في الزوجة، كفارتها كفارة الظهار، ويمين صغرى فيما عداها، كفارتها كفارة اليمين بالله. قال: وهذا معنى قول ابن عباس وغيره من الصحابة ومن بعدهم: إن التحريم يمين يكفّر.
وقال رحمه الله في (أعلام الموقعين): لا يجوز أن يفرق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ لم يوضع للطلاق ولا نواه، وتلزمه كفارة يمين حرمه لشدة اليمين، إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد، ولا هي من لغو اليمين، وهي يمين منعقدة، ففيها كفارة يمين.
ثم قال في المذهب الثالث عشر: إنه يمين يكفره ما كفر اليمين على كل حال، صحّ ذلك أيضا عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعكرمة وعطاء ومكحول وقتادة والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ونافع والأوزاعي وأبي ثور، وخلق سواهم رضي الله عنهم. وحجة هذا القول ظاهر القرآن، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلابد أن يتناوله يقينا، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله.
وقال في زاد المعاد: لا فرق بين التحريم- في غير الزوجة- بين الأمة وغيرها عند الجمهور، إلا الشافعي وحده، فإنه أوجب في تحريم الأمة خاصة، كفارة اليمين، إذ التحريم له تأثير في الأبضاع عنده، دون غيرها: وأيضا فإن سبب نزول الآية تحريم الجارية، فلا يخرج محل السبب عن الحكم، ويتعلق بغيره. ومنازعوه يقولون: النص علق فرض تحلة اليمين بتحريم الحلال، وهو أعمّ من تحريم الأمة وغيرها، فتجب الكفار حيث وجد سببها. وقد تقدّم تحريره.
{وإِذْ أسرّ النّبِيُّ إِلى بعْضِ أزْواجِهِ حديثا فلمّا نبّأتْ بِهِ وأظْهرهُ الله عليْهِ عرّف بعْضهُ وأعْرض عن بعْضٍ فلمّا نبّأها بِهِ قالتْ منْ أنبأك هذا قال نبّأنِي الْعلِيمُ الْخبِيرُ} [3].
{وإِذْ أسرّ النّبِيُّ} يعني محمدا صلى الله عليه وسلم {إِلى بعْضِ أزْواجِهِ حديثا} هي حفصة في قول الرواة: ابن عباس وقتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن والشعبي والضحاك، كما نقله ابن جرير {حديثا} وهو تحريم فتاته في قولهم. قال ابن جرير: أو ما حرم على نفسه مما كان الله جل ثناؤه قد أحله له، وقوله: «لا تذكري ذلك لأحد».
{فلمّا نبّأتْ بِهِ} أي: أخبرت بالسرّ، صاحبتها كما تقدم، {وأظْهرهُ الله عليْهِ} أي: أطلعه على تحديثها به، {عرّف بعْضهُ} أي: عرّفها بعض ما أفشته معاتبا {وأعْرض عن بعْضٍ} أي: بعض الحديث تكرما، {فلمّا نبّأها بِهِ قالتْ منْ أنبأك هذا قال نبّأنِي الْعلِيمُ الْخبِيرُ} أي: الذي لا تخفى عليه خافية.
تنبيه:
في (الإكليل): في الآية أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمانه. وفيها حسن المعاشرة مع الزوجات، والتلطف في العتب، والإعراض عن استقصاء الذنب.
وحكى الزمخشري عن سفيان قال: ما زال التغافل من فعل الكرام.
ثم أشار تعالى إلى غضبه لنبيه، صلوات الله عليه، مما أتت به من إفشاء السر إلى صاحبتها، ومن مظاهرتهما على ما يقلق راحته، وأن ذلك ذنب تجب التوبة منه، بقوله سبحانه: {إِن تتُوبا إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُم وإِن تظاهرا عليْهِ فإِنّ الله هُو موْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين والْملائِكةُ بعْد ذلِك ظهِيرٌ} [4]
{إِن تتُوبا إِلى الله فقدْ صغتْ قُلُوبُكُما} أي: إلى الحق، وهو ما وجب من مجانبة ما يسخط رسوله. وقد صح عن ابن عباس أنه سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن المتظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عائشة وحفصة.
وفي خطابهما، على الالتفات من الغيب إلى الخطاب، مبالغة، فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب مطرودا بعيدا عن ساحة الحضور، ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد.
{وإِن تظاهرا عليْهِ} أي: تتظاهرا وتتفقا على ما يسوؤه، {فإِنّ الله هُو موْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ الْمُؤْمِنِين والْملائِكةُ بعْد ذلِك ظهِيرٌ} أي: متظاهرون على من أراد مساءته، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على منْ هؤلاء ظهراؤه؟ ولما كانت الملائكة أعظم المخلوقات وأكثرهم، ختم الظهراء بهم ليكون أفخم في التنويه بالنبي صلوات الله عليه، وعظم مكانته، والانتصار له، إذ هي هنا بمثابة جيش جرار، يملأ القفار، يتأثر أميره وقائده، ليحمل على عدوّه ومناوئه.
{عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ أن يُبْدِلهُ أزْواجا خيْرا مِّنكُنّ مُسْلِماتٍ مُّؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثيِّباتٍ وأبْكارا} [5]
{عسى ربُّهُ إِن طلّقكُنّ أن يُبْدِلهُ أزْواجا خيْرا مِّنكُنّ مُسْلِماتٍ} أي: خاضعات لله بالطاعة {مُؤْمِناتِ} أي: مصدقات بالله ورسوله {قانِتاتٌ} أي: مطيعات لما يؤمرن به {تائِباتٍ} أي: من الذنوب لا يصررن عليها {عابِداتٍ} أي: متعبدات لله، كأن العبادة امتزجت بقلوبهن، حتى صارت ملكة لهن {سائِحاتٍ} قيل: معناه صائمات، وسننبه على ما فيه {ثيِّباتٍ وأبْكارا}
اعلم أن في توصيف المبدلات بهذه الصفات، تعريضا بوجوب اتصاف الأزواج بها، لاسيما أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
تنبيه:
ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد من {سائِحاتٍ} صائمات أو مهاجرات. وقد قدمنا في سورة التوبة في تفسير {السّائِحُون} [الآية: 112] أن الحق فيه هو المعنى الحقيقيّ لعدم ما يمنع منه، ولا يصار إلى المجاز إلا لمانع. ولذا قال بعض المحققين: إنه يستفاد من هذه الآية مشروعية السياحة للنساء، كما هي كذلك للرجال. فمعنى قوله تعالى: {سائِحاتٍ} مسافرات، سواء كان السفر لهجرة أو اطلاع على آثار الأمم البائدة. وقد خصصت السنة عموم سفرهن بكونه مع زوج أو محرم له، حفظا لهن.
ثم قال: كأن الذي دعا البعض لتفسير {سائِحاتٍ} بالصائمات، أو بخصوص المهاجرات، تصوره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء المأمورات بالحجاب، وكأنه يفهم من الحجاب أنه الحبس المؤبد، أو كأن الهواء نعمة مخصوصة بغير النساء، أو كأنهن لم يخلقن إلا لسجون البيوت التي ربما تكون أنكى من أعمق سجون الجناة، أو كأنهن لم يخلق لهن من هذه الدنيا الرحيبة سوى بيت واحد؟! وأما قوله تعالى: {خلق لكُم مّا فِي الأرْضِ جمِيعا}
[البقرة: 29]، فكأنه مخصوص بالرجل، أو كأن الآيات الآمرة بالسير للنظر والعبرة والإحاطة والخبرة، نازلة من السماء ليس للأمة جميعا، بل للنصف منها، وهو الرجال. وحاشا أن يكون ذلك! أين هديه صلى الله عليه وسلم في سفره مع أزواجه؟ فقد «كان يقرع بينهن»، فأيتهن خرجت قرعتها خرج بها، وسافرت معه. وقد صار ذلك شريعة معمولا بها في الدين. وهكذا صح أنه صلى الله عليه وسلم: «لما قدم بصفية أردفها خلفه وهو مع الركب».
وبالجملة فالسياحة في القرآن الكريم ليست ترمي إلى غاية واحدة، بل إلى عدة غايات وفوائد:
أولا: إدراك المعقولات، والإحاطة بعظات المسموعات، كما نتعلمه من آية {أفلمْ يسِيرُوا فِي الْأرْضِ فتكُون لهُمْ قُلُوبٌ يعْقِلُون بِها أوْ آذانٌ يسْمعُون بِها فإِنّها لا تعْمى الْأبْصارُ ولكِن تعْمى الْقُلُوبُ الّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
ثانيا: الوقوف على أحوال الأمم البائدة، وما لهم من جليل الآثار الداعية للاعتبار، كما نتعلمه من قول الكتاب الحكيم:
{أو لمْ يسِيرُوا فِي الْأرْضِ فينظُرُوا كيْف كان عاقِبةُ الّذِين كانُوا مِن قبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أشدّ مِنْهُمْ قُوّة وآثارا فِي الْأرْضِ فأخذهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ وما كان لهُم مِّن الله مِن واقٍ} [غافر: 21]، وقوله: {أولمْ يسِيرُوا فِي الْأرْضِ فينظُرُوا كيْف كان عاقِبةُ الّذِين مِن قبْلِهِمْ كانُوا أشدّ مِنْهُمْ قُوّة وأثارُوا الْأرْض وعمرُوها أكْثر مما عمرُوها وجاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبيِّناتِ فما كان الله لِيظْلِمهُمْ ولكِن كانُوا أنفُسهُمْ يظْلِمُون} [الروم: 9].
ثالثا: البحث والتنقيب في أنحاء المسكونة بالنظر في الكون، وفي الفنون، للوصول إلى معرفة مبدع هذا العالم تعالى، كما يحثنا الكتاب الكريم على تسنم هذا المرتقى العالي بقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأرْضِ فانظُرُوا كيْف بدأ الْخلْق} [العنكبوت: 20].
رابعا: الحصول على ربح التجارة كما نتعلم ذلك من قول الكتاب الكريم: {وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ يبْتغُون مِن فضْلِ الله} [المزمل: 20].
فهل ترى هذه الفوائد ذات البال مختصة بالرجل دون الأنثى، حتى يكون السير خاصا بالرجل؟ كلا! وقد امتن الله على أهل سبأ بما حكاه بقوله: {وجعلْنا بيْنهُمْ وبيْن الْقُرى الّتِي باركْنا فِيها قُرى ظاهِرة وقدّرْنا فِيها السّيْر سِيرُوا فِيها ليالِي وأيّاما آمِنِين} [سبأ: 18]. وامتن على جميع عباده بقوله: {هُو الّذِي يُسيِّرُكُمْ فِي الْبرِّ والْبحْرِ} [يونس: 22]، وقال تعالى: {متاعا لّكُمْ وللسّيّارةِ} [المائدة: 96]، فهل يجوز أن نذهب إلى أن هذه المنن هي من مخصوصات الرجل دون النساء؟ كلا! بل الكل مغمور بهذه المنّات، كما هو مقتضى عموم الآيات. انتهى ملخصا.
{يا أيُّها الّذِين آمنُوا قُوا أنفُسكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا وقُودُها النّاسُ والْحِجارةُ عليْها ملائِكةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يعْصُون الله ما أمرهُمْ ويفْعلُون ما يُؤْمرُون} [6]
{يا أيُّها الّذِين آمنُوا قُوا أنفُسكُمْ وأهْلِيكُمْ نارا} أي: سببها، وذلك بترك المعاصي، وفعل الطاعات، والقيام على تأديب الأهل، وأخذهن بما تأخذون به أنفسكم {وقُودُها النّاسُ والْحِجارةُ} أي: تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب {عليْها ملائِكةٌ} أي: تلي أمرها وتعذيب أهلها، زبانية {غِلاظٌ شِدادٌ} أي: جفاة قساة {لا يعْصُون الله ما أمرهُمْ ويفْعلُون ما يُؤْمرُون} قال الزمخشري: وليست الجملتان في معنى واحد، فإن معنى الأولى: أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به، لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه. انتهى.
وقيل: الجملة الأولى لبيان استمرار إتيانهم بأوامره، والثانية لأنهم لا يفعلون شيئا ما لم يؤمروا به، كقوله تعالى: {وهُم بِأمْرِهِ يعْملُون} [الأنبياء: 27]، فإن استمرارهم على فعل ما يؤمرون به يفيده، فلا تكرار. وقيل: إنه من الطرد والعكس، وهو يكون في كلامين، يقرر منطوق أحدهما مفهوم الآخر، وبالعكس.
{يا أيُّها الّذِين كفرُوا لا تعْتذِرُوا الْيوْم إِنّما تُجْزوْن ما كُنتُمْ تعْملُون} [7]
{يا أيُّها الّذِين كفرُوا لا تعْتذِرُوا الْيوْم إِنّما تُجْزوْن ما كُنتُمْ تعْملُون} أي: يقال لهم ذلك عند دخولهم النار. فالمراد بـ: {الْيوْم} وقت دخولهم إياها، فتعريفه للعهد، والنهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم، أو العذر لا ينفعهم.
{يا أيُّها الّذِين آمنُوا تُوبُوا إِلى الله توْبة نّصُوحا عسى ربُّكُمْ أن يُكفِّر عنكُمْ سيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلكُمْ جنّاتٍ تجْرِي مِن تحْتِها الْأنْهارُ يوْم لا يُخْزِي الله النّبِيّ والّذِين آمنُوا معهُ نُورُهُمْ يسْعى بيْن أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ يقولون ربّنا أتْمم لنا نُورنا واغْفِرْ لنا إِنّك على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ} [8] أي: توبة ترقع الخروق، وترتق الفتوق، وتصلح الفاسد، وتسد الخلل. من النصح بمعنى الخياطة. أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى الحال الذي تاب عنه، والنظر إليه بعدم الالتفات، وقطع النظر عنه من النصوح بمعنى الخلوص {عسى ربُّكُمْ} أي: بمناصحة أنفسكم بالتوبة النصوح {أن يُكفِّر عنكُمْ سيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلكُمْ جنّاتٍ تجْرِي مِن تحْتِها الْأنْهارُ يوْم لا يُخْزِي الله النّبِيّ والّذِين آمنُوا معهُ} أي: لا يذلهم. تعريض لأعدائهم بالخزي والصغار {نُورُهُمْ يسْعى بيْن أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ يقولون ربّنا أتْمم لنا نُورنا} أي: أدمه أو زده {واغْفِرْ لنا إِنّك على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ}
{يا أيُّها النّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّار والْمُنافِقِين واغْلُظْ عليْهِمْ ومأْواهُمْ جهنّمُ وبِئْس الْمصِيرُ} [9]
{يا أيُّها النّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّار والْمُنافِقِين} أي: بالسنان والبرهان {واغْلُظْ عليْهِمْ} أي: فيما تجاهدهم به، لتنكسر صلابتهم، وتلين شكيمتهم وعريكتهم، فتنقهر نفوسهم وتذل وتخضع.
{ومأْواهُمْ جهنّمُ وبِئْس الْمصِيرُ}
{ضرب الله مثلا للذِين كفرُوا اِمْرأة نُوحٍ واِمْرأة لُوطٍ كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحيْنِ فخانتاهُما فلمْ يُغْنِيا عنْهُما مِن الله شيْئا وقِيل ادْخُلا النّار مع الدّاخِلِين} [10]
{ضرب الله مثلا للذِين كفرُوا اِمْرأة نُوحٍ واِمْرأة لُوطٍ} أي: حالهما {كانتا تحْت عبْديْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحيْنِ فخانتاهُما} أي: بالمظاهرة عليهما والكفر والعصيان، مع تمكنهما من الطاعة والإيمان {فلمْ يُغْنِيا عنْهُما مِن الله} أي: من عذابه {شيْئا وقِيل} أي: لهما عند موتهما، أو يوم القيامة:
{ادْخُلا النّار مع الدّاخِلِين} أي: مع سائر الداخلين من الفجرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.
{وضرب الله مثلا للذِين آمنُوا اِمْرأة فِرْعوْن إِذْ قالتْ ربِّ ابْنِ لِي عِندك بيْتا فِي الْجنّةِ ونجِّنِي مِن فِرْعوْن وعملِهِ ونجِّنِي مِن الْقوْمِ الظّالِمِين ومرْيم ابْنت عِمْران الّتِي أحْصنتْ فرْجها فنفخْنا فِيهِ مِن رُّوحِنا وصدّقتْ بِكلِماتِ ربِّها وكُتُبِهِ وكانتْ مِن الْقانِتِين} [11- 12]
{وضرب الله مثلا للذِين آمنُوا اِمْرأة فِرْعوْن إِذْ قالتْ ربِّ ابْنِ لِي عِندك بيْتا فِي الْجنّةِ ونجِّنِي مِن فِرْعوْن وعملِهِ ونجِّنِي مِن الْقوْمِ الظّالِمِين} أي: من عملهم وعذابهم {ومرْيم ابْنت عِمْران الّتِي أحْصنتْ فرْجها} أي: حفظته وصانته {فنفخْنا فِيهِ مِن رُّوحِنا} يعني جبريل عليه السلام، أو من روح خلقناه بلا توسط، وهو عيسى عليه السلام {وصدّقتْ بِكلِماتِ ربِّها} أي: بصحفه المنزلة من عنده {وكُتُبِهِ} أي: الموحاة. والعطف للتفسير، أو الكلمات أعم من المكتوب والمحفوظ من أوامره ووصاياه المتوارثة، والكتب خاصة بالمخطوط من الأسفار.
{وكانتْ مِن الْقانِتِين} أي: من المواظبين على الطاعة لله، والخضوع لأحكامه. والتذكير للتغليب.
تنبيهات:
الأول: قال الزمخشريّ: مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم، من غير إبقاء ولا محاباة ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة ونسب، أو وصلة صهر، لأن عداوتهم لهم، وكفرهم بالله ورسوله، قطع العلائق، وبت الوصل، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر، نبيا من أنبياء الله، بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما، بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج، إغناء ما من عذاب الله، ومثل حال المؤمنين في وصلة الكافرين لا تضرهم، ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى مع كونها زوجة أعدى أعداء الله، الناطق بالكلمة العظمى. ومريم ابنة عمران، وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفارا. وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأميّ المؤمنين المذكورتين في أول السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده، لما في التمثيل من ذكر الكفر. ونحوه في التغليظ:
{ومن كفر فإِنّ الله غنِيٌّ عنِ الْعالمِين} [آل عمران: 97]، وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين. والتعريض بحفصة أرجح، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب، بالغة من اللطف والخفاء حدّا يدق على تفطن العالم ويزل عن تبصره. انتهى.
الثاني: قال الإمام ابن القيم في (أعلام الموقعين) اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار، ومثلين للمؤمنين.
فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب، أو وصلة صهر، أو سبب من أسباب الاتصال. فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة، إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح، مع عدم الإيمان، لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما. فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل: ادخلا النار مع الداخلين قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله، وخالف أمره، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال، فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية، ولم يغن نوح عن ابنه، ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولوط عن امرأتيهما من الله شيئا؛ قال تعالى: {لن تنفعكُمْ أرْحامُكُمْ ولا أوْلادُكُمْ يوْم الْقِيامةِ يفْصِلُ بيْنكُمْ} [الممتحنة: 3]، وقال تعالى: {يوْم لا تمْلِكُ نفْسٌ لِّنفْسٍ شيْئا} [الانفطار: 19]
وقال تعالى: {واتّقُواْ يوْما لاّ تجْزِي نفْسٌ عن نّفْسٍ شيْئا} [البقرة: 48و123]، وقال: {واخْشوْا يوْما لّا يجْزِي والِدٌ عن ولدِهِ ولا موْلُودٌ هُو جازٍ عن والِدِهِ شيْئا إِنّ وعْد الله حقٌّ} [لقمان: 33]، وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة، أن من تعلقوا به من دون الله، من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة، أو يجيرهم من عذاب الله أو يشفع لهم عند الله. وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الذي بعث الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، بإبطاله، ومحاربة أهله ومعاداتهم.
وأما المثلان اللذان للمؤمنين: فأحدهما امرأة فرعون، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله، فتأتي عامة. فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به، وهو أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، وهما رسولا رب العالمين.
المثل الثاني للمؤمنين: مريم، التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر.
فذكر ثلاثة أصناف النساء: المرأة، والثانيةلتي لها وصلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر، والمرأة العزب التي لا وصلة بينهما وبين أحد، فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببه، والثانية لا تضرها وصلتها وسببها، والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة، فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والتحذير من تظاهرهن عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله، ويردن الدار الآخرة، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة. وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم اعتبار آخر: وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا، قذف أعداء الله اليهود لها، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله عنه، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين، فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه.
وفي هذه تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون، إن كانت قبلها. كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي صلى الله عليه وسلم. فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن، والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه. وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولاسيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون. انتهى.
الثالث: قال القاشانيّ: بيّن تعالى أن الوصل الطبيعية، والاتصالات الصورية غير معتبرة في الأمور الأخروية، بل المحبة الحقيقية، والاتصالات الروحانية، هي المؤثرة فحسب. والصورية التي بحسب اللحمة الطبيعية والخلطة والمعاشرة لا يبقى لها أثر فيما بعد الموت، ولا تكون إلا في الدنيا، بالتمثيلين المذكورين. وإن المعتبر في استحقاق الكرامة عند الله هو العمل الصالح، والاعتقاد الحق، كإحصان مريم، وتصديقها بكلمات ربها، وطاعتها المعدة إياها لقبول نفخ روح الله فيها. وقد يلوح بينهما أن النفس الخائنة التي لا تفي بالطاعة، ولا تحفظ الأسرار، وتبيح المخالفة، داخلة في نار الحرمان، وجحيم الهجران مع المحجوبين، ولا تغني هداية الروح عنها شيئا من الإغناء في باب العذاب، وأن القلب المقهور تحت استيلاء النفس الأمارة الفرعونية، الطالب للخلاص بالالتجاء إلى الحق الذي قويت فيه قوة محبة الله لصفائه، وضعفت قوة قهره للنفس والشيطان لعجزه وضعفه، لا يبقى في العذاب بمجاورتها حينا، وتألم بأفعالها برهة. وأن النفس المتزينة بفضيلة العفة المشار إليها بإحصان الفرج، هي القابلة لفيض روح القدس المتنورة بنور الروح المصدقة بكلمات الرب، من العقائد الحكمية، والشرائع الإلهية، المطيعة لله مطلقا، علما وعملا، سرا وجهرا. انتهى ملخصا.
الرابع: في (الإكليل): استدل بقوله تعالى: {امْرأتُ فِرْعوْن} على صحة أنكحة الكفار. أقول: ويستدل بقوله تعالى: {اِمْرأة نُوحٍ واِمْرأة لُوطٍ} إلى قوله: {فخانتاهُما} على جواز استدامة الرجل الصالح نكاح امرأته الفاسقة العاصية، وعلى أن استبقاءها بدون مفارقة لا يعد من قلة التورع، وهو جليّ. ويستدل بذلك أيضا على أن نكاح المشركات كان جائزا في شرع من قبلنا، وقد حظره الإسلام أشد الحظر، كما مرّ في آيات عديدة.
الخامس: قال ابن كثير في قوله تعالى عن حكاية امرأة فرعون: {ربِّ ابْنِ لِيعِندك بيْتا فِي الْجنّةِ} قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار، وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع.
السادس: قال الزمخشريّ: في دعاء امرأة فرعون دليل على أن الاستعاذة بالله، والالتجاء إليه، ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين، وسنن الأنبياء والمرسلين {فافْتحْ بيْنِي وبيْنهُمْ فتْحا ونجِّنِي ومن مّعِي مِن الْمُؤْمِنِين} [الشعراء: 118].
{ربّنا لا تجْعلْنا فِتْنة للقوْمِ الظّالِمِين ونجِّنا بِرحْمتِك مِن الْقوْمِ الْكافِرِين} [يونس: 85- 86]. اهـ.